فصل: ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سبب تنصر قسطنطين:

وأما سبب تنصر قسطنطين فإنه كان قد كبر سنه وساء خلقه وظهر به وضح كبير، فأرادت الروم خلعه وترك ماله عليه، فشاور نصحاءه، فقالوا له: لا طاقة لك بهم فقد أجمعوا على خلعك وإنما تحتال عليهم بالدين. وكانت النصرانية قد ظهرت، وهي خفية، وقالوا له: استمهلهم حتى تزور البيت المقدس، فإذا زرته دخلت في دين النصرانية وحملت الناس عليه، فإنهم يعترفون، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك، وما قاتل قوم على دين إلا نصروا. ففعل ذلك، فأطاعه عالم عظيم وخالفه خلق كثير وأقاموا على دين اليونانية، فقاتلهم وظفر بهم، فقتلهم فأحرق كتبهم وحكمتهم وبنى القسطنطينية ونقل الناس إليها، وكانت رومية دار ملكهم، وبقي ملكه عليه، وغلب على الشام، وكان الأكاسرة قبل سابور ذي الأكتاف ينزلون طيسفون، وهي المدينة الغربية من المدائن، فلما نشأ سابور بنى الإيوان بالمدائن الشرقية وانتقل إيه وصار هو دار الملك، وهو باقٍ إلى الآن، ونحن في سنة خمس وعشرين وستمائة.

.ذكر ملك أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن سابور بن أردشير بن بابك أخي سابور:

فلما ملك واستقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة فقتل منهم خلقاً كثيراً، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه.

.ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف:

فلما ملك بعد خلع عمه استبشر الناس بعود ملك أبيه إليه، وكتب إلى العمال بالعدل والرفق بالرعية وأمر بذلك وزراءه وحاشيته، وأطاعه عمه المخلوع وأحبته رعيته، ثم إن العظماء وأهل الشرف قطعوا أطناب خيمة كان فيها فسقطت عليه فقتلته.
وكان ملكه خمس سنين.

.ذكر ملك أخيه بهرام بن سابور ذي الأكتاف:

وكان يلقب كرمان شاه، لأن أباه ملكه كرمان في حياته، فكتب إلى القواد كتاباً يحثهم على الطاعة، وكان محموداً في أموره، وبنى بكرمان مدينة. وثار به ناس من الفتاك فقتله أحدهم بنشابة.
وكان ملكه إحدى عشرة سنة.

.ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف:

ومن أهل العلم من يقول إن يزدجرد هذا هو أخو بهرام كرمان شاه بن سابور لا ابنه، وكان فظاً غليظاً ذا عيوب كثيرة يضع الشيء في غير مواضعه، كثير الرؤية في الصغائر، واستعمال كل ما عنده في المواربة والدهاء والمخاتلة مع فطنة بجهات الشر وعجب به، وكان غلقاً سيئ الخلق لا يغفر الصغيرة من الزلات ولا يقبل شفاعة أحد من الناس وإن كان قريباً منه، كثير التهمة، ولا يأتمن أحداً على شيء، ولم يكن يكافئ أحداً على حسن البلاء وإن هو أولى الخسيس من العرف استعظمه، وإذا بلغه أن أحداً من أصحابه صافى أحداً من أهل صناعته نحاه عن خدمته. وكان فيه مع ذلك ذكاء ذهن وحسن أدب، وقد مهر في صنوف من العلم، واستوزر نرسي حكيم زمانه، وكان فاضلاً قد كمل أدبه ولقبه هزار بيده، فأمل الناس أن يصلح نرسي منه، فكان ما أملوه بعيداً.
فلما استوى له الملك واشتدت شوكته هابته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء فأكثر من سفك الدماء.
فلما ابتليت الرعية به شكوا ما نزل بهم منه إلى الله تعالى وسألوه تعجيل إنقاذهم منه، فزعموا أنه كان بجرجان فرأى ذات يوم في صره فرساً عائراً لم ير مثله، فأخبر به، فأمر أن يسرج ويلجم ويدخل عليه، فلم يقدر أحد على ذلك، فأعلم بذلك، فخرج إليه بنفسه وألجمه بيده وأسرجه، فلما رفع ذنبه ليثفره رمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه وملأ الفرس فروجه جرياً ولم يعلم له خبر، وكان ذلك من صنع الله ورأفته بهم.
وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوماً.
وأما العرب فقيل إنه لما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو ابن عدي في عهد سابور استخلف سابور على عمله أوس بن قلام، وهو من العماليق، فملك خمس سنين وقتل في عهد بهرام بن سابور، ساستخلف بعده في عمله امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس البدء، فبقي خمساً وعشرين سنة، وهلك أيام يزدجرد الأثيم، فاستخلف بعده في عمله ابنه النعمان وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو صاحب الخورنق. وسبب بنائه له أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح، فدل على ظاهرة الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكناً له وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق رجلاً اسمه سنمار. فلما فرغ من بنائه تعجبوا منه، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري لعملته يدور مع الشمس. فقال: وإنك لتقدر على ما هو أفضل منه! ثم أمر به فألقي من رأس الخورنق فهلك، فضربت العرب بجزائه المثل، وهو مذكور في أشعارها.
وغزا النعمان هذا الشام مراراً وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم وجعل معه ملك فارس كتيبتين يقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، فكان يغزو بهما الشام ومن لم يطعه من العرب.
ثم إنه جلس يوماً في مجلسه من الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والأنهار في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ذلك، فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط؟ قال: لا لو كان يدوم. قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال ذلك؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله. فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح وخرج هارباً لا يعلم به، فأصبح الناس فلم يروه.
وكان ملكه إلى أن تركه وساح تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في أيام يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.
وأما علماء الفرس فإنهم يقولون غير هذا، وسيرد ذكره.

.ذكر ملك بهرام بن يزدجرد الأثيم:

لما ولد يزدجرد بهرام جور اختار لحضانته العرب، فدعا بالمنذر بن النعمان واستحضنه بهرام وشرفه وكرمه وملكه على العرب، فسار به المنذر واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة من بنات الأشراف، منهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين. فلما بلغ خمس سنين أحضر له مؤدبين فعلموه الكتابة والرمي والفقه بطلب من بهرام بذلك، وأحضر حكيماً من حماء الفرس بتعلم ووعى كل ما علمه بأدنى تعليم. فلما بلغ اثنتي عشرة سنة تعلم كل ما أفيد وفاق معلميه، فأمرهم المنذر بالانصراف، وأحضر معلمي الفروسية فأخذ عنهم كل ما ينبغي له، ثم صرفهم. ثم أمر فأحضرت خيل العرب للسباق فسبقها فرس أشقر للمنذر، وأقبل باقي الخيل بداد بداد فقرب المنذر الفرس بيده إليه، فقبله وركبه يوماً للصيد، فبصر بعانة حمرٍ وحش، فرمى عليها وقصدها وإذا هو بأسد قد أخذ عيراً منها فتناول ظهره بفيه، فرماه بهرام بسهم فنفذ في الأسد والعير، ووصل إلى الأرض فساخ السهم إلى ثلثه، فرآه من معه فعجبوا منه، ثم أقبل على الصيد واللهو والتلذذ.
فمات أبوه وهو عند المنذر، فتعاهد العظماء وأهل الشرف على أن لا يملكوا أحداً من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، فاجتمعت الكلمة على صرف الملك عن بهرام لنشوئه في العرب وتخلقه بأخلاقهم ولأنه من ولد يزدجرد، وملكوا رجلاً من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى. فانتهى هلاك يزدجرد وتمليك كسرى إلى بهرام، فدعا بالمنذر وابنه النعمان وناس من أشراف العرب وعرفهم إحسان والده إليهم وشدته على الفرس، وأخبرهم الخبر. فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه، وجهز عشرة آلاف فارس ووجههم مع ابنه النعمان إلى طيسفون وبهرسير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قرباً منهما ويرسل طلائعه إليهما وأن يقاتل من قاتله ويغير على البلاد، ففعل ذلك، وأرسل عظماء فارس حوابى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر يعلمه أمر النعمان، فلما ورد حوابى قال له: الق الملك بهرام. فدخل عليه، فراعه ما رأى منه، فأغفل السجود دهشا، فعرف بهرام ذلك فكلمه ووعده أحسن الوعد ورده إلى المنذر وقال له: أجبه. فقال له: إن الملك بهرام أرسل النعمان إلى ناحيتكم حيث ملكه الله بعد أبيه. فلما سمع حوابى مقالة المنذر وتذكر ما رأى من بهرام علم أن جميع من تشاور في صرف الملك عن بهرام محجوج، فقال للمنذر: سر إلى مدينة الملوك فيجتمع إليك الأشراف والعظماء، وتشاوروا في ذلك فلن يخالفوا ما تشير به.
وسار المنذر بعد عود حوابي من عنده بيوم في ثلاثين ألفاً من فرسان العرب إلى مدينتي الملك بهرام، فجمع الناس، وصعد بهرام على منبر من ذهب مكلل بالجوهر وتكلم عظماء الفرس فذكروا فظاظة يزدجرد أبي بهرام وسوء سيرته وكثرة قتله وإخراب البلاد وأنهم لهذا السبب صرفوا الملك عن ولده.
فقال بهرام: لست أكذبكم وما زلت زارياً عليه ذلك ولم أزل أسأل الله أن يملكني لأصلح ما أفسد ومع هذا فإذا أتى على ملكي سنة ولم اف بما أعد تبرأت من الملك طائعاً وأنا راضٍ بأن تجعلوا التاج وزينة الملك بين أسدين ضاريين فمن تناولهما كان الملك له. فأجابوه إلى ذلك ووضعوا التاج والزينة بين أسدين، وحضر موبذان موبذ، فقال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى لأنك تطلب الملك بوراثة وأنا فيه مغتصب. فحمل بهرام جرزاً وتوجه نحو التاج، فبدر إليه أحد الأسدين فوثب بهرام فعلاً ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجزر الذي معه، ثم وثب الأسد الآخر عليه، فقبض أذنيه بيده ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما ثم قتلهما بالجزر الذي معه وتناول بعد ذلك التاج والزينة. فكان أول من أطاعه كسرى، وقال جميع من حضر: قد أذعنا لك ورضينا بك ملكاً، وإن العظماء والوزراء والأشراف سألوا المنذر ليكلم بهرام في العفو عنهم. فسأل المنذر الملك بهرام ذلك فأجابه.
وملك بهرام وهو ابن عشرين سنة وأمر أن يلزم رعيته راحة ودعة، وجلس للناس يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله، ولم يزل مدة ملكه يؤثر اللهو على ما سواه حتى طمع فيه من حوله من الملوك في بلاده، وكان أول من سبق إلى قصده خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتي ألف وخمسين ألفاً من الترك، فعظم ذلك على الفرس، ودخل العظماء على بهرام وحذروه، فتمادى في لهوه ثم تجز وسار إلى أذربيجان ليتنسك في بيت نارها، ويتصيد بأمنيته في سبعة رهط من العظماء وثلاثمائة من ذوي البأس والنجدة، واستخلف أخاه نرسي، فما شك الناس في أنه هرب من عدوه، فاتفق رأي جمهورهم على الانقياد إلى خاقان، وبذل الخراج له خوفاً على نفوسهم وبلادهم.
فبلغ ذلك خاقان فأمن ناحيتهم وسار بهرام من أذربيجان إلى خاقان في تلك العدة، فثبت للقتال وقتل خاقان بيده وقتل جنده وانهزم من سلم من القتل، وأمعن بهرام في طلبهم يقتل ويأسر ويغنم ويسبي، وعاد وجنده سالمين وظفر بتاج خاقان وإكليله وغلب على طرف من بلاده واستعمل عليها مرزباناً، وأتاه رسل الترك خاضعين مطيعين وجعلوا بينهم حداً لا يعدونه، وأرسل إلى ما وراء النهر قائداً من قواده فقتل وسبى وغنم، وعاد بهرام إلى العراق، وولى أخاه نرسي خراسان وأمره أن ينزل مدينة بلخ.
واتصل به أن بعض رؤساء الديلم جمع جمعاً كثيراً وأغار على الري وأعمالها فغنم وسبى وخرب البلاد وقد عجز أصحابه في الثغر عن دفعه، وقد قرروا عليهم إتاوة يدفعونها إليه، فعظم ذلك عليه وسير مرزباناً إلى الري في عسكر كثيف وأمره أن يضع على الديلمي من يطمعه في البلاد ويغريه بقصدها، ففعل ذلك، فجمع الديلمي جموعه وسار إلى الري، فأرسل المرزبان إلى بهرام جور يعلمه خبره، فكتب إليه يأمره بالمسير نحو الديلمي والمقام بموضع سماه له، ثم سار جريدة في نفر من خواصه فأدرك عسكره بذلك المكان والديلمي لا يعلم بوصوله، وهو قد قوي طمعه لذلك، فعبى بهرام أصحابه وسار نحو الديلم، فلقيهم وباشر القتال بنفسه، فأخذ رئيسهم أسيراً، وانهزم عسكره، فأمر بهرام بالنداء فيهم بالأمان لمن عاد إليه، فعاد الديلم جميعهم، فآمنهم ولم يقتل منهم أحداً وأحسن إليهم وعادوا إلى أحسن طاعة، وأبقى على رئيسهم وصار من خواصه.
وقيل: كانت هذه الحادثة قبل حرب الترك، والله أعلم.
ولما ظفر بالديلم أمر ببناء مدينة سماها فيروز بهرام، فبنيت له هي ورستاقها. واستوزر نرسي، فأعلمه أنه ماضٍ إلى الهند متخفياً، فسار إلى الهند وهو لا يعرفه أحد، غير أن الهند يرون شجاعته وقتله السباع. ثم إن فيلاً ظهر وقطع السبيل وقتل خلقاً كثيراً، فاستدل عليه، فسمع الملك خبره فأرسل معه من يأتيه بخبره. فانتهى بهرام والهندي معه إلا الأجمة، فصعد الهندي شجرة ومضى بهرام فاستخرج الفيل وخرج وله صوت شديد، فلما قرب منه رماه بسهم بين عينيه كاد يغيب، ووقذه بالنشاب وأخذ مشفره، ولم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه فاحتز رأسه وأخرجه.
وأعلم الهندي ملكهم بما رأى، فأكرمه وأحسن إليه وسأله عن حاله، فذكر أن ملك فارس سخط عليه فهرب إلى جواره، وكان لهذا الملك عدو فقصده، فاستسلم الملك وأراد أن يطيع ويبذل الخراج، فنهاه بهرام وأشار بمحاربته، فلما التقوا قال لأساورة الهندي: احفظوا لي ظهري، ثم حمل عليهم فجعل يضرب في أعراضهم ويرميهم بالنشاب حتى انهزموا، وغنم أصحاب بهرام ما كان في عسكر عدوه، فأعطى بهرام الدبيل ومكران وأنحكه ابنته، فأمر بتلك البلاد فضمت إلى مملكة الفرس.
وعاد بهرام مسروراً وأغزى نرسي بلاد الروم في أربعين ألفاً وأمره أن يطالب ملك الروم بالإتاوة، فسار إلى القسطنطينية، فهادنه ملك الروم، فانصرف بكل ما أراد إلى بهرام. وقيل: إنه لما فرغ من خاقان والروم سار بنفسه إلى بلاد اليمن ودخل بلاد السودان فقتل مقاتلتهم وسبى لهم خلقاً كثيراً وعاد إلى مملكته.
ثم إنه في آخر ملكه خرج إلى الصيد فشد على عنز فأمعن في طلبه، فارتطم في جب فغرق، فبلغ والدته ذلك، فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه، فنقلوا من الجب طيناً كثيراً حتى صار إكاماً عظاماً ولم يقدروا عليه.
وكان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وقيل: ثلاثاً وعشرين سنة.
هكذا ذكر أبو جعفر في اسم بهرام جور أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان، كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم ابنه بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس، ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذلك، إلا أنه لم ينسب كل قول إلى قائله.

.ذكر ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور:

لما لبس التاج جلس للناس ووعدهم وذكر أباه ومناقبه وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه طول جلوسه لهم فإن خلوته في مصالحهم وكيد أعدائهم، وأنه قد استوزر نرسي صاحب أبيه. وعدل في رعيته وقمع أعداءه وأحسن إلى جنده، وكان له ابنان يقال لأحدهما هرمز وللآخر فيروز، وكان لهرمز سجستان، فغلب على الملك بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز ولحق ببلاد الهياطلة واستنجد ملكهم، فأمده بعد أن دفع إليه الطالقان، فأقبل بهم فقتل أخاه بالري، وكانا من أم واحدة، وقيل لم يقتله وإنما أسره وأخذ الملك منه.
وكان الروم منعوا الخراج عن يزدجرد، فوجه إليهم نرسي في العدة التي أنفذه أبوه فيها فبلغ إرادته. وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر، وقيل تسع عشرة سنة.

.ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته:

ولما ظفر فيروز بأخيه وملك أظهر العدل وأحسن السيرة، وكان يتدين، إلا أنه كان محدوداً مشؤوماً على رعيته، وقحطت البلاد في زمانه سبع سنين متوالية، وغارت الأنهار والقنى، وقل ماء دجلة، ومحلت الأشجار، وهاجت عام الزروع في السهل والجبل من بلاده، وماتت الطيور والوحوش، وعم أهل البلاد الجوع والجهد الشديد، فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية ولا مؤونة، وتقدم إليهم بأن كل من عنده طعام مذخور يواسي به الناس وأن يكون حال الغني والفقير واحداً، وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنساناً مات جوعاً بمدينة أو قرية عاقبهم ونكل بهم، وساس الناس سياسةً لم يعطب أحد جوعاً ما خلا رجلاً واحداً من رستاق أردشير خره، وابتهل فيروز إلى الله بالدعاء فأزال ذلك القحط وعادت بلاده إلى ما كانت عليه.
فلما حيي الناس والبلاد وأثخن في أعدائه سار مريداً حرب الهياطلة، فلما سمع إخشنوار ملكهم خافه، فقال له بعض أصحابه: اقطع يدي ورجلي وألقني على الطريق وأحسن إلى عيالي لأحتال على فيروز. ففعل ذلك، واجتاز به فيروز فسأله عن حاله فقال له: إني قلت لإخشنوار لا طاقة لك بفيروز ففعل بي هذا، وإني أدلك على طريق لم يسلكها ملك وهي أقرب. فاغتر فيروز بذلك وتبعه، فسار به وبجنده حتى قطع بهم مفازة بعد مفازة حتى إذا علم أنهم لا يقدرون على الخلاص وأعلمهم حاله. فقال أصحاب فيروز لفيروز: حذرناك فلم تحذر، فليس إلا التقدم على كل حال، فتقدموا أمامهم فوصلوا إلى عدوهم وهم هلكى عطشى وقتل العطش منهم كثيراً. فلما أشرفوا على تلك الحال صالحوا إخشنوار على أن يخلي سبيلهم إلى بلادهم على أن يحلف له فيروز أنه لا يغزو بلاده، فاصطلحا، وكتب فيروز كتاباً بالصلح وعاد.
فلما استقر في مملكته حملته الأنفة على معاودة إخشنوار، فنهاه وزراؤه عن نقض العهد، فلم يقبل وسار نحوه، فلما تقاربا أمر إخشنوار فحفر خلف عسكره خندقاً عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعاً وغطاه بخشب ضعيف وتراب، ثم عاد وراءه، فلما سمع فيروز بذلك اعتقده هزيمة فتبعه ولا يعلم عسكر فيروز بالخندق فسقط هو وأصحابه فيه فهلكوا، وعاد إخشنوار إلى عسكر فيروز وأخذ كل ما فيه وأسر نساءه وموبذان موبذ ثم استخرج جثة فيروز وجثة كل من سقط معه فجعلها في النواويس.
وقيل: إن فيروز لما انتهى إلى الخندق الذي حفره إخشنوار ولم يكن مغطى عقد عليه قناطر وجعل عليها أعلاماً له ولأصحابه يقصدونها في عودهم وجاء إلى القوم. فلما التقى العسكران احتج عليه إخشنوار بالعهود التي بينهما وحذره عاقبة الغدر، فلم يرجع، فنهاه أصحابه فلم ينته، فضعفت نياتهم في القتال. فلما أبى إلا القتال رفع إخشنوار نسخة العهد على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب وقلده بغيه. فقاتله فانهزم فيروز وعسكره فضلوا عن مواضع القناطر فسقطوا في الخندق، فهلك فيروز وأكثر عسكره، وغنم إخشنوار أموالهم ودوابهم وجميع ما معهم، وغلب إخشنوار على عامة خراسان. فسار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا، وكان فيهم عظيماً، وخرج كالمحتسب، وقيل: بل كان فيروز استخلفه على ملكه لما سار، وكان له سجستان، فلقي صاحب الهياطلة فأخرجه من خراسان واستعاد منه كل ما أخذ من عسكر فيروز مما هو في عسكره من السبي وغيره وعاد إلى بلاده، فعظمته الفرس إلى غاية لم يكن فوقه إلا الملك، وكانت مملكة الهياطلة طخارستان، فكان فيروز قد أعطى ملكهم لما ساعده على حرب أخيه الطالقان.
وكان ملك فيروز ستاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة.

.ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروز:

كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم، وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي سيد كندة، فلما قتل عمرة ابن تبع أخاه حسان بن تبع اصطنع عمرة بن حجر وزوجه ابنة أخيه حسان، ولم يطمع في التزوج إلى ذلك البيت أحد من العرب، فولدت الحارث بن عمرو. وملك بعد عمرة بن تبع عبد كلال بن مثوب، وإنما مملكوه لأن أولاد عمرو كانوا صغاراً، وكان الجن قبل ذلك قد استهامت تبع بن حسان، وكان عبد كلال على دين النصرانية الأولى ويكتم ذلك. ورجع تبع بن حسان من استهامته وهو أعلم الناس بما كان قبله، فملك اليمن، وهابته حمير، فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر في جيش إلى الحيرة، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس، وهو ابن الشقيقة، فقاتله فقتل النعمان وعدةً من أهل بيته، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من النمر ابن قاسط، فذهب ملك آل النعمان وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون؛ قاله بعضهم.
وقال ابن الكلبي: ملك بعد النعمان المنذر بن النعمان بن المنذر بن النعمان أربعاً وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين، وفي زمن يزدجرد ابن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده الأسود بن المنذر عشرين سنة، منها في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين.
وهكذا ذكر أبو جعفر ها هنا أن الحارث بن عمرو قتل النعمان بن امرئ القيس وأخذ بلاده وانقرض ملك أهل بيته، وذكر فيما تقدم أن المنذر بن النعمان أو النعمان، على الاختلاف المذكور، هو الذي جمع العساكر وملك بهرام جور على الفرس، ثم ساق فيما بعد ملوك الحيرة من أولاد النعمان هذا إلى آخرهم ولم يقطع ملكهم بالحارث بن عمرو، وسبب هذا أن أخبار العرب لم تكن مضبوطة على الحقيقة، فقال كل واحد ما نقل إليه من غير تحقيق.
وقيل غير ذلك، وسنذكره في مقتل حجر بن عمرو والد امرئ القيس في أيام العرب إن شاء الله.
والصحيح أن ملوك كندة عمرو والحارث كانوا بنجد على العرب، وأما اللخميون ملوك الحيرة المناذرة فلم يزالوا عليها إلى أن ملك قباذ الفرس وأزالهم واستعمل الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة. ثم أعاد أنوشروان الحيرة إلى اللخميين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجرد:

ثم ملك بعد فيروز ابنه بلاش وجرى بينه وبين أخيه قباذ منازعة استظهر فيها قباذ وملك، فلما ملك بلاش أكرم سوخرا وأحسن إليه لما كان منه، ولم يزل حسن السيرة حريصاً على العمارة، وكان لا يبلغه أن بيتاً خرب وجلا أهله إلا عاقب صاحب تلك القرية على تركه سد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى مفارقة أوطانهم، وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن، وكان ملكه أربع سنين.

.ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد:

وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصراً به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفسه إلى النكاح، فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة، فسار إلى امرأة صاحب المنزل، وكان من الأساورة، وكان لها بنت حسناء، فخطبها منها وأطمعها وزوجها، فزوجا فدخل بها من ليلته، فحملت بأنوشروان، وأمر لها بجائزةٍ سنية وردها، وسألتها أمها عن قباذ وحاله. فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئاً غير أن سراويله منسوجة بالذهب، فعلمت أنه من أبناء الملوك. ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه، فأقام عنده أربع سنين وهو يعده، ثم أرسل معه جيشاً. فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه. وورد الخبر إليه بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك، فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكر لولده خدمته. وتولى سوخرا الأمر، فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ، فلم يحتمل ذلك. فكتب إلى سابور الرازي، وهو أصبهبذ ديار الجبل، ويقال للبيت الذي هو منه مهران، فاستقدمه ومعه جنده، فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك، فأتاه يوماً سابور وسوخرا عند قباذ فألقى في عنقه وهقاً وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي.
وفي أيامه ظهر مزدك وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به وزاد ونقص، وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسب ما دعا إليه زرادشت، واستحل المحارم والمنكرات، وسوى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء البتة، فكثر أتباعه من السفلة والأغتام فصاروا عشرات ألوف، فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر، وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار، فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ. فقال يوماً لقباذ: اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان. فأجابه إلى ذلك، فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه، فتركها.
وحرم ذباحة الحيوان وقال: يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن، فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه.
فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ اجتمع موبذان موبذ والعظماء وخلعوه وملكوا عليهم أخاه جامسب وقالوا له: إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونسائك، وأرادوه على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار، فامتنع من ذلك، فحبسوه وتركوه لا يصل إليه أحد. فخرج زرمهر بن سوخرا فقتل من المزدكية خلقاً، وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب. ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر.
وقيل: لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أختٌ لقباذ عليه كأنها تزوره ثم لفته في بساط وحمله غلام، فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه، فقالت: هو مرحل كنت أحيض فيه، فلم يمس البساط، فمضى الغلام بقباذ، وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه. فلما صار بإيران شهر، وهي نيسابور، نزل برجل من أهلها له ابنة بكر حسنة جميلة فنحكها، وهي أم كسرى أنوشروان، فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك، في قول بعضهم، وعاد ومعه أنوشروان، فغلب أخاه جامسب على الملك؛ وكان ملك جامسب ست سنين. وغزا قباذ بعد ذلك الروم ففتح مدينة آمد وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات، فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثاً وأربعين سنة، فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به.
وفي أيامه خربت الخزر فأغاربت على بلاده فبلغت الدينور، فوجه قباذ قائداً من عظماء قواده في اثني عشر ألفاً، فوطئ بلاد أران وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان، ثم إن قباذ لحق به فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة برذعة، وهي مدينة الثغر كله، وغيرهما، وبقي الخزر، ثم بنى سداً للآن فيما بين أرض شروان وباب اللان، وبنى على السد مدناً كثيرة خربت بعد بناء الباب والأبواب.